فصل: الوجه الرابع والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى **


*2* الوجه الثاني والعشرون

قول أشعيا في موضع آخر‏:‏‏(‏‏(‏سأبعث من الصبا قوما يأتون من المشرق مجيبين أفواجا كالصعيد كثرة، ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين‏)‏‏)‏ ‏(‏‏(‏والصبا‏)‏‏)‏ يأتي من نحو مطلع الشمس، بعث الله سبحانه من هناك قوما من أهل المشرق مجيبين بالتلبية كالتراب كثرة‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏‏(‏ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين‏)‏‏)‏ إما أن يراد به الهرولة بالطواف والسعي، وإما أن يراد به رجال قد كلت أرجلهم من المشي‏.‏

*2*  الوجه الثالث والعشرون

قول في كتاب أشعيا أيضا‏:‏‏(‏‏(‏عبدي وخيرتي ورضا نفسي، أفيض عليه روحي‏)‏‏)‏ أو قال‏:‏‏(‏‏(‏أنزل عليه روحي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته، يفتح العيون العمي العور، ويسمع الآذان الصم، ويحي القلوب الغلف‏.‏

وما أعطيه لا أعطي غيره، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى اللهو، ولا يسمع في الأسواق صوته، ركن للمتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى ولا يخصم، حتى يثبت في الأرض حجتي، وينقطع به المعذرة‏)‏‏)‏‏.‏

فمن وجد بهذا الوصف غير محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه‏؟‏ ‏!‏

فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها -وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة -غيره لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، فقوله‏:‏ ‏(‏عبدي‏)‏ موافق لقوله في القرآن‏:‏ ‏(‏وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وأنه لما قام عبد الله يدعوه‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏سبحان الذي أسرى بعبده ليلا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وخيرتي ورضا نفسي‏)‏‏)‏ مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏لا يضحك‏)‏‏)‏ مطابق لوصفه الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم قالت عائشة‏:‏

‏(‏‏(‏ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى تبدو لهواته؛ إنما كان يتبسم تبسما‏)‏‏)‏ وهذا لأن كثرة الضحك من خفة الروح ونقصان العقل؛بخلاف التبسم فإنه من حسن الخلق وكمال الإدراك‏.‏

وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه ‏(‏‏(‏الضحوك القتال‏)‏‏)‏ فالمراد به‏:‏أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه إذا كان حدا لله وحقا له، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال، فترك الضحك بالكلية من الكبر والتجبر وسوء الخلق، وكثرته من‏(‏ص 76‏)‏ الخفة والطيش، والاعتدال بين ذلك‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏‏(‏أنزل عليه روحي‏)‏‏)‏ مطابق لقوله تعالى‏:‏‏(‏وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق‏)‏ فسمي الوحي روحا لأن حياة القلوب والأرواح به، كما أن حياة الأبدان بالأرواح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏فيظهر في الأمم عدلي‏)‏‏)‏ مطابق قوله تعالى‏:‏‏(‏فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم‏)‏‏.‏

وقوله عن أهل الكتاب‏:‏ ‏(‏فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏‏(‏يوصي الأمم بالوصايا‏)‏‏)‏ مطابق لقوله تعالى‏:‏‏(‏شرع لكم من الذين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏)‏ وقوله في سورة الأنعام‏:‏‏(‏قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا‏)‏ إلى قوله‏:‏‏(‏ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏(‏ولا تقربوا ما اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده‏)‏ إلى قوله‏:‏ ‏(‏ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون‏)‏ثم قال‏:‏‏(‏وإن صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون‏)‏‏.‏

ووصاياه صلى الله عليه وسلم هي عهوده إلى الأمة بتقوى الله وعبادته وحده لا شريك له، والتمسك بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه‏.‏

وقوله‏:‏‏(‏‏(‏ولا تسمع صوته‏)‏‏)‏ يعني‏:‏ليس بصخاب له فديد كحال من ليس له حلم ولا وقار، وقوله‏:‏‏(‏‏(‏يفتح العيون العمي والآذان الصم والقلوب الغلف‏)‏‏)‏ إشارة إلى تكميل مراتب العلم والهدي الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع، فباينوا بذلك أحوال الصم البكم العمي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها‏.‏

فإن الهدي يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسل، ففتح الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الأعين العمى فأبصرت بالله، والآذان الصم فسمعت عن الله، والقلوب الغلف فعقلت عن الله، فانقادت لطاعته عقلا وقولا وعملا، وسلكت سبل مرضاته ذللا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وما أعطيه فلا أعطي غيره‏)‏‏)‏ مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي‏)‏‏)‏ ولقول الملائكة لما ضربوا له المثل‏:‏ ‏(‏‏(‏لقد أعطي هذا النبي ما لم يعط نبي قبله إن عينيه تنامان وقلبه يقظان‏)‏‏)‏‏.‏

فمن ذلك أنه بعث إلى الخلق عامة، وختم به ديوان الأنبياء، وأنزل عليه القرآن الذي لم ينزل من السماء كتاب يشبهه ولا يقاربه، وأنزل على قلبه محفوظا متلوا، وضمن له حفظه إلى أن يأتي ‏(‏ص 77‏)‏ الله بأمره وأوتي جوامع الكلم، ونصر بالرعب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر، وجعلت صفوف أمته في الصلاة على مثال صفوف الملائكة في السماء‏.‏

وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا، وأسري به إلى أن جاوز السموات السبع، ورأى ما لم يره بشر قبله، ورفع على سائر النبيين، وجعل سيد ولد آدم، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، واتبعه على دينه أتباع أكثر من أتباع سائر النبيين من عهد نوح إلى المسيح‏.‏

فأمته ثلثا أهل الجنة، وخصه بالوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، وبالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأعز الله به الحق وأهله عزا لم يعزه بأحد قبله، وأذل به الباطل وحزبه ذلا لم يحصل بأحد قبله‏.‏

وآتاه من العلم والشجاعة والصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية والمعارف الآلهية ما لم يؤته نبي قبله، وجعلت الحسنة منه ومن أمته بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وصلى عليه هو وجميع ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه، وأمر عباده المؤمنين كلهم أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه، كما في الخطبة والتشهد والأذان فلا يصح لأحد أذان ولا خطبة ولا صلاة، حتى يشهد أنه عبده ورسوله‏.‏

ولم يجعل لأحد معه أمرا يطاع لا ممن قبله ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومن عليها، وأغلق أبواب الجنة إلا عمن سلك خلفه واقتدى به، وجعل لواء الحمد بيده فآدم وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وجعله أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها فلا يدخلها أحد من الأولين والآخرين إلا بشفاعته‏.‏

وأعطي من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله، والعزيمة على تنفيذ أوامره، والرضا عنه، والشكر له، والقنوع في مرضاته، وطاعته ظاهرا وباطنا سرا وعلانية في نفسه، وفي الخلق ما لم يعطه نبي قبله، ومن عرف أحوال العالم وسير الأنبياء وأممهم تبين له أن الأمر فوق ذلك، فإذا كان يوم القيامة ظهر للخلائق من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أنه يكون أبدا قوله‏:‏

‏(‏‏(‏ولا يضعف ولا يغلب‏)‏‏)‏ هكذا كان حاله صلوات الله وسلامه عليه ما ضعف في ذات الله قط، ولا في حال انفراده وقلة أتباعه وكثرة أعدائه، واجتماع أهل الأرض على حربه؛بل هو أقوى الخلق وأثبتهم جأشا وأشجعهم قلبا، حتى أنه يوم أحد قتل أصحابه وجرحوا وما ضعف ولا استكان؛بل خرج من الغد في طلب عدوه على شدة القرح حتى أرعب منه العدو وكر خاسئا على‏(‏ص 78‏)‏ كثرة عددهم وعُددهم وضعف أصحابه‏.‏

وكذلك يوم حنين أفرد عن الناس في نفر يسير دون العشرة والعدو قد أحاطوا به، وهم ألوف مؤلفة، فجعل يثب في العدو، ويقول‏:‏

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

ويتقدم إليهم، ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فولوا منهزمين‏.‏

ومن تأمل سيرته وحروبه علم أنه لم يطرق العالم أشجع منه ولا أثبت ولا أصبر، وكان أصحابه مع أنهم أشجع الأمم إذا حمى البأس واشتد الحرب اتقوا به وتترسوا به، فكان أقربهم إلى العدو، وأشجعهم هو الذي يكون قريبا منه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا يميل إلى اللهو‏)‏‏)‏ هكذا كانت سيرته كان أبعد الناس من اللهو واللعب؛بل أمره كله جد وحزم وعزم، مجلسه مجلس حياء وكرم وعلم وإيمان ووقار وسكينة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ولا يسمع في الأسواق صوته‏)‏‏)‏ أي ليس من الصاخبين في الأسواق في طلب الدنيا والحرص عليها كحال أهلها الطالبين لها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ركن للمتواضعين فإن من تأمل سيرته وجده أعظم الناس تواضعا للصغير والكبير والمسكين والأرملة والحر والعبد‏:‏ يجلس معهم على التراب، ويجيب دعوتهم، ويسمع كلامهم، وينطلق مع أحدهم في حاجته، ويأخذ له حقه ممن لا يستطيع أن يطالبه به، ويخصف نعله، ويخيط ثوبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏وهو نور الله الذي لا يطفئ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر‏)‏‏)‏ وهذا مطابق لحاله وأمره، ولما شهد به القرآن في غير موضع كقوله تعالى‏:‏‏(‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون‏)‏ ونظائره في القرآن كثيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏حتى ينقطع به العذر وتثبت به الحجة‏)‏‏)‏ مطابق لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏والمرسلات عرفا‏)‏ إلى قوله ‏(‏فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين‏.‏ أو تقولوا لو أنا أنزلنا علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة‏)‏‏.‏ ‏(‏ص 79‏)‏

فالحجة إنما قامت على الخلق بالرسل، وبهم انقطعت المعذرة، فلا يمكن من بلغته دعوتهم وخالفها أن يعتذر إلى الله يوم القيامة إذ ليس له عذر يقبل منه‏.‏

وهذه البشارة مطابقة لما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو، أخبرنا ببعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن‏:‏ ‏(‏يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا‏)‏، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فافتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله‏)‏‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إن هذا في التوراة‏)‏‏)‏ لا يريد به التوراة المعينة التي هي كتاب موسى؛ فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة‏.‏

فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضا‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن‏)‏‏)‏ فالمراد به قرآنه‏:‏ وهو الزبور‏.‏

وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة‏:‏ ‏(‏‏(‏نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى‏)‏‏)‏ وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، ‏(‏‏(‏أناجيلهم في صدورهم‏)‏‏)‏، فقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة‏)‏‏)‏ إما أن يريد التوراة المعينة، أو جنس الكتب المتقدمة‏.‏

وعلى التقديرين فإجابة عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة، أي‏:‏ التي هي أعم من الكتاب المعين، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة، بل هو في كتاب أشعيا كما حكيناه عنه‏.‏

وقد ترجموه أيضا بترجمة أخرى فيها بعض الزيادة‏:‏ ‏(‏‏(‏عبدي ورسولي الذي سرت به نفسي، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، والآذان الصم، ويحي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطيه أحدا، يحمد الله حمدا جديدا، يأتي به من أقطار الأرض، وتفرح بالبرية وسكانها، يهللون الله على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، مشفح، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى، أثر سلطانه على كتفيه‏)‏‏)‏‏.‏

وقوله ‏(‏‏(‏مشفح‏)‏‏)‏ بالشين المعجمة والفاء المشددة‏.‏ بوزن مكرم، وهي لفظة عبرانية مطابقة لاسم محمد معنى ولفظا مقاربا‏(‏ص 80‏)‏ كمطابقة موذ موذ بل أشد مطابقة، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانية فإنها بين الحاء والهاء، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة، ولا يستريب عالم من علمائهم منصف أنها مطابقة لاسم محمد‏.‏

قال أبو محمد ابن قتيبية‏:‏‏(‏‏(‏مشفح‏)‏‏)‏ محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون‏:‏ شفحالاها إذا أرادوا أن يقولوا‏:‏ الحمد لله، وإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد بغير شك، وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم‏:‏

‏(‏‏(‏إن مئذ مئذ‏)‏‏)‏ هو محمد، وهو بكسر الميم والهمزة، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة، قال‏:‏ ولا يشك العلماء منهم بأنه محمد وإن سكتنا عن إيراد ذلك وإذا ضربنا عن هذا صفحا فمن هذا الذي انطبقت عليه وعلى أمته هذه الصفات سواه‏؟‏ ‏!‏

ومن هذا الذي أثر سلطانه وهو خاتم النبوة على كتفيه رآه الناس عيانا مثل زر الحجلة‏؟‏ ‏!‏‏!‏

فماذا بعد الحق إلا الضلال، وبعد البصيرة إلا العمى ‏(‏ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور‏)‏ فصفات هذا النبي ومخرجه ومبعثه وعلاماته وصفات أمته في كتبهم، يقرؤنها في كنائسهم ويدرسونها في مجالسهم لا ينكرها منهم عالم ولا يأباها جاهل؛ ولكنهم يقولون لم يظهر بعد، وسيظهر ونتبعه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد‏.‏ عن عكرمة‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏.‏ عن ابن عباس‏:‏ أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه‏.‏

فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء معرور، وداود بن سلمة‏:‏

يا معشر، يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه نبي مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير‏:‏ ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏(‏وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين‏)‏‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون‏:‏

اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى يعذب المشركين ويقتلهم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات‏:‏ ‏(‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين‏)‏‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن رجال من قومه، قالوا‏:‏ ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا نسمع من رجال اليهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم ‏(‏ص 81‏)‏ بعض ما يكرهون قالوا لنا‏:‏ قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم‏.‏

فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة‏:‏

(‏ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين‏)‏‏.‏

*2* الوجه الرابع والعشرون

قوله في كتاب شعيا أشكر‏:‏‏(‏‏(‏حبيبي وابني أحمد فلهذا‏)‏‏)‏ جاء ذكره في نبوة شعيا أكثر من غيرها من النبوات، وأعلن شعيا بذكره ووصفه ووصف أمته، ونادى بها في نبوته سرا وجهرا لمعرفته بقدره ومنزلته عند الله‏.‏

وقال شعيا أيضا‏:‏‏(‏‏(‏إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد‏)‏‏)‏ وهذا إفصاح باسمه صلى الله عليه وسلم، فليرنا أهل الكتاب نبيا نصت الأنبياء على اسمه وصفته ونعته وسيرته وصفة أمته وأحوالهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ‏!‏

*2* الوجه الخامس والعشرون

قول حبقوق في كتابه‏:‏‏(‏‏(‏إن الله جاء من اليمن، والقدوس من جبال فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده، وشاع منظره مثل النور، يحوط بلاده بعزة تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام يمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة، وانخفضت الروابي، فتزعزعت أسوار مدين، ولقد حاز المساعي القديمة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏‏(‏‏(‏زجرك في الأنهار، واحتدام صوتك في البحار، ركبت الخيول، وعلوت مراكب الأتقياء، وستنزع قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شؤبوب السيل، وتغيرت المهاري تغييرا رفعت أيديها وجلا وخوفا، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك تدوخ الأرض وتدوس الأمم، لأنك ظهرت لخلاص أمتك، وإنقاذ تراث آبائك‏)‏‏)‏‏.‏

فمن رام صرف هذه البشارة عن محمد فقد رام ستر الشمس بالنهار وتغطية البحار، وأنى يقدر على ذلك وقد وصفه بصفات عينت شخصه وأزالت عن الحيران لبسه‏؟‏ ‏!‏ بل قد صرح باسمه مرتين حتى، انكشف الصبح لمن كان ذا عينين، وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم، واتباع جوارح الطير آثارهم، وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تصلح إلا له، ولا تنزل إلا عليه‏.‏

فمن حاول صرفها عنه فقد حاول صرف الأنهار العظيمة عن مجراها، وحبسها عن غايتها ومنتهاها، وهيهات ما يروم المبطلون والجاحدون، ويأبى الله إلا أن ‏(‏ص 82‏)‏ يتم نوره ولو كره الكافرون، فمن الذي امتلأت الأرض من حمده وحمد أمته لله في صلواتهم وخطبهم وأدبار صلواتهم، وعلى السراء والضراء، وجميع الأحوال سواء‏؟‏ ‏!‏

حتى سماهم الله قبل ظهورهم الحمادين‏!‏ ومن الذي كان وجهه كأن الشمس والقمر يجريان فيه في ضيائه ونوره‏؟‏ ‏!‏

قد عود الطير عادت وثقن بها * شاهده في وجهه ينطق

لو لم يقل إني رسول أما * فهن يتعبنه في كل مرتحل

ومن الذي سارت المنايا أمامه، وصحبت سباع الطير جنوده، لعلمها بما يقرب من ذبح الكفار لله الواحد القهار‏؟‏ ‏!‏

يتطايرون بقربه قربانهم * بدماء من علقوا من الكفار

ومن الذي تضعضعت له الجبال وانخفضت له الروابي، وداس الأمم، ودوخ العالم، انتفضت بنبوته الممالك، وخلص الأمة من الشرك والكفر والجهل والظلم سواه‏؟‏ ‏!‏

*2* الوجه السادس والعشرون

قوله في كتاب حزقيل يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏‏(‏وأن الله مظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبيا، ينزل عليه كتابا، ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين يوقعون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار‏)‏‏)‏‏.‏

فمن الذي أظهره الله على اليهود حتى قهرهم وأذلهم وأوقع بهم وأنزل عليه كتابا‏؟‏ ‏!‏

ومن هم بنو قيدار غير بني إسماعيل اللذين خرجوا معه ومعهم جماعات الشعوب‏؟‏ ‏!‏

ومن الذي نزلت عليه الملائكة على خيل بيض يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، حتى عاينوها عيانا تقاتل بين يديه، وعن يمينه وعن شماله، حتى غلب ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا ليس معهم غير فرسين ألف رجل مقنعين في الحديد، معدودين من فرسان العرب، فأصبحوا بين قتيل وأسير ومنهزم ‏!‏‏!‏‏!‏

*2* الوجه السابع والعشرون

قول دانيال وذكره باسمه الصريح، من غير تعريض ولا تلويح، وقال‏:‏‏(‏‏(‏سينزع في قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء‏)‏‏)‏‏.‏

وقال دانيال النبي أيضا حين سأل بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها ثم أنسيها‏:‏‏(‏‏(‏رأيت أيها الملك صنماً عظيماً قائماً بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من الخزف، فبينا أنت متعجب منه إذ أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم، فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا ثم نسفته الرياح وذهب، ‏(‏ص 83‏)‏ وتحول ذلك الحجر إنسانا عظيما ملأ الأرض فهذا ما رأيت أيها الملك‏)‏‏)‏، فقال بخت نصر‏:‏

صدقت فما تأويلها‏؟‏ قال‏:‏ أنت الرأس الذي رأيته من الذهب، ويقوم بعدك ولدك وهو الذي رأيته من الفضة وهو دونك، وتقوم بعده مملكة أخرى هي دونه وهي تشبه النحاس، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد‏.‏

وأما الرجلان اللذان رأيت من خزف فمملكة ضعيفة، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم ففتته فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ الأرض منه ومن أمته، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير رؤياك أيها الملك‏.‏

ومعلوم أن هذا منطبق على محمد بن عبد الله حذو القذة بالقذة؛ لا على المسيح ولا على نبي سواه، فهو الذي بعث بشريعة قوية، ودق جميع ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض من أمته، وسلطانه دائم إلى آخر الدهر، لا يقدر أحد أن يزيله كما أزال سلطان اليهود من الأرض، وأزال سلطان النصارى عن خيار الأرض ووسطها فصار في بعض أطرافها، وزال سلطان المجوس وعباد الأصنام وسلطان الصابئين‏.‏